وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ ذَمِّ الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ نَظَرًا فِي الْمَالِ خَاصَّةً، بَلْ فِي الدُّنْيَا عَامَّةً، وَالْمَالُ بَعْضُ أَجْزَائِهَا، الْجَدِيرُ بِإِفْرَادِ الْبَحْثِ عَنْهُ، إِذْ فِيهِ آفَاتٌ وَغَوَائِلُ، وَلِلْإِنْسَانِ مِنْ فَقْدِهِ صِفَةُ الْفَقْرِ، وَمِنْ وُجُودِهِ وَصْفُ الْغِنَى، وَهُمَا حَالَتَانِ يَحْصُلُ بِهِمَا الِاخْتِبَارُ وَالِامْتِحَانُ، ثُمَّ لِلْفَاقِدِ حَالَتَانِ: الْقَنَاعَةُ وَالْحِرْصُ، وَإِحْدَاهُمَا مَذْمُومَةٌ وَالْأُخْرَى مَحْمُودَةٌ. وَلِلْحَرِيصِ حَالَتَانِ: طَمَعٌ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَتَشَمُّرٌ لِلْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ مَعَ الْيَأْسِ عَنِ الْخَلْقِ، وَالطَّمَعُ شَرُّ الْحَالَتَيْنِ. وَلِلْوَاحِدِ حَالَتَانِ: إِمْسَاكٌ بِحُكْمِ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ، وَإِنْفَاقٌ، وَإِحْدَاهُمَا مَذْمُومَةٌ، وَالْأُخْرَى مَحْمُودَةٌ، وَلِلْمُنْفِقِ حَالَتَانِ: تَبْذِيرٌ وَاقْتِصَادٌ، وَالْمَحْمُودُ هُوَ الِاقْتِصَادُ. وَهَذِهِ أُمُورٌ مُتَشَابِهَةٌ، وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنِ الْغُمُوضِ فِيهَا مُهِمٌّ، وَنَحْنُ نَشْرَحُهُ بِعَوْنِهِ تَعَالَى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الْمُنَافِقُونَ: ٩]، وَقَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [التَّغَابُنِ: ١٥]، فَمَنِ اخْتَارَ مَالَهُ وَوَلَدَهُ عَلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ وَغَبِنَ خُسْرَانًا مُبِينًا، وَقَالَ تَعَالَى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [الْعَلَقِ: ٦، ٧]، فَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَقَالَ تَعَالَى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التَّكَاثُرِ: ١]، وَقَالَ ﷺ: «تَعِسَ عَبْدُ الدُّنْيَا وَتَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ وَلَا انْتَعَشَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ» بَيَّنَ أَنَّ مُحِبَّهُمَا عَابِدٌ لَهُمَا، وَمَنْ عَبَدَ حَجَرًا فَهُوَ عَابِدُ صَنَمٍ، أَيْ مَنْ قَطَعَهُ ذَلِكَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ أَدَاءِ حَقِّهِ فَهُوَ كَعَابِدِ صَنَمٍ، وَهُوَ شِرْكٌ، إِلَّا أَنَّ الشِّرْكَ خَفِيٌّ وَجَلِيٌّ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُمَا.
وَقَالَ ﷺ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي! وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» . وَقَالَ ﷺ: «مَا ذِئْبَانِ ضَارِيَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَكْثَرَ إِفْسَادًا فِيهَا مِنْ حُبِّ الشَّرَفِ وَالْمَالِ وَالْجَاهِ فِي دِينِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ» . وَقَالَ ﷺ: «هَلَكَ الْمُكْثِرُونَ إِلَّا مَنْ قَالَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» .
وَعَنْ «يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ» قَالَ: «الدِّرْهَمُ عَقْرَبٌ، فَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ رُقْيَتَهُ فَلَا تَأْخُذْهُ، فَإِنَّهُ إِنْ لَدَغَكَ قَتَلَكَ سُمُّهُ، قِيلَ: وَمَا رُقْيَتُهُ؟ قَالَ: أَخْذُهُ مِنْ حِلِّهِ وَوَضْعُهُ فِي حَقِّهِ»، وَعَنْهُ ﵀: «مُصِيبَتَانِ لَمْ يَسْمَعِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ بِمِثْلِهَا لِلْعَبْدِ فِي مَالِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ»، قِيلَ: «وَمَا هُمَا»؟ قَالَ: «يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلُّهُ، وَيُسْأَلُ عَنْهُ كُلُّهُ».
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَمَّى الْمَالَ خَيْرًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَقَالَ ﷿: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) [الْبَقَرَةِ: ١٨٠] وَقَالَ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى عِبَادِهِ: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نُوحٍ: ١٢] وَقَالَ ﷺ: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» .
وَلَا تَقِفُ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ إِلَّا بِأَنْ تَعْرِفَ حِكْمَةَ الْمَالِ وَمَقْصُودَهُ وَآفَاتِهِ؛ حَتَّى يَنْكَشِفَ لَكَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ وَجْهٍ وَشَرٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَأَنَّهُ مَحْمُودٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَيْرٌ وَمَذْمُومٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَرٌّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَيْرٍ مَحْضٍ وَلَا هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ، بَلْ هُوَ سَبَبُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَمَا هَذَا وَصْفُهُ، فَيُمْدَحُ تَارَةً وَيُذَمُّ أُخْرَى.
قَدَّمْنَا أَنَّ الْمَالَ فِيهِ خَيْرٌ وَشَرٌّ، فَمَنْ عَرَفَ فَوَائِدَهُ وَغَوَائِلَهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ شَرِّهِ وَيَسْتَدِرَّ مِنْ خَيْرِهِ. أَمَّا الْفَوَائِدُ فَدُنْيَوِيَّةٌ وَدِينِيَّةٌ، أَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَمَعْرُوفَةٌ، وَأَمَّا الدِّينِيَّةُ فَتَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُنْفِقَهُ إِمَّا عَلَى عِبَادَةٍ كَالسَّفَرِ لِلْحَجِّ وَالْعِلْمِ، وَإِمَّا فِيمَا يُقَوِّيهِ عَلَى الْعِبَادَةِ مِنْ مَطْعَمٍ، وَمَلْبَسٍ، وَمَسْكَنٍ، وَمَنْكَحٍ، وَضَرُورَاتِ الْمَعِيشَةِ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى الْعِبَادَةِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ عِبَادَةٌ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَصْرِفُهُ إِلَى النَّاسِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الصَّدَقَةُ، وَالْمُرُوءَةُ، وَوِقَايَةُ الْعِرْضِ، وَأُجْرَةُ الِاسْتِخْدَامِ.
أَمَّا الصَّدَقَةُ: فَلَا يَخْفَى ثَوَابُهَا.
وَأَمَّا الْمُرُوءَةُ: فَنَعْنِي بِهَا صَرْفَ الْمَالِ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالْأَشْرَافِ فِي ضِيَافَةٍ، وَهَدِيَّةٍ، وَإِعَانَةٍ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا، فَإِنَّ هَذِهِ لَا تُسَمَّى صَدَقَةً، بَلِ الصَّدَقَةُ مَا يُسَلَّمُ إِلَى الْمُحْتَاجِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا مِنَ الْفَوَائِدِ الدِّينِيَّةِ؛ إِذْ بِهِ يَكْتَسِبُ الْعَبْدُ الْإِخْوَانَ وَالْأَصْدِقَاءَ، وَبِهِ يَكْتَسِبُ صِفَةَ السَّخَاءِ وَيَلْتَحِقُ بِزُمْرَةِ
الْأَسْخِيَاءِ، فَلَا يُوصَفُ بِالْجُودِ إِلَّا مَنْ يَصْطَنِعُ الْمَعْرُوفَ، وَيَسْلُكُ سَبِيلَ الْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةَ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَعْظُمُ الثَّوَابُ فِيهِ، فَقَدْ وَرَدَتْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي الْهَدَايَا، وَالضِّيَافَاتِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ فِي مَصَارِفِهَا.
وَأَمَّا وِقَايَةُ الْعِرْضِ: فَنَعْنِي بِهِ بَذْلَ الْمَالِ لِدَفْعِ هَجْوِ الشُّعَرَاءِ، وَثَلْبِ السُّفَهَاءِ وَدَفْعِ شَرِّهِمْ، وَهُوَ أَيْضًا - مَعَ تَنَجُّزِ فَائِدَتِهِ فِي الْعَاجِلَةِ - مِنَ الْحُظُوظِ الدِّينِيَّةِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عِرْضَهُ كُتِبَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» وَكَيْفَ لَا وَفِيهِ مَنْعُ الْمُغْتَابِ عَنْ مَعْصِيَةِ الْغِيبَةِ، وَاحْتِرَازٌ عَمَّا يَثُورُ مِنْ كَلَامِهِ مِنَ الْعَدَاوَةِ الَّتِي تَحْمِلُ فِي الْمُكَافَأَةِ وَالِانْتِقَامِ عَلَى مُجَاوَزَةِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ.
وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ: فَهُوَ أَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا الْإِنْسَانُ كَثِيرَةٌ، وَلَوْ تَوَلَّاهَا بِنَفْسِهِ ضَاعَتْ أَوْقَاتُهُ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: مَا لَا يَصْرِفُهُ إِلَى إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، وَلَكِنْ يَحْصُلُ بِهِ خَيْرٌ عَامٌّ؛ كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَالْقَنَاطِرِ، وَالرِّبَاطَاتِ، وَدُورِ الْمَرْضَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْقَافِ الْمُرْصَدَةِ لِلْخَيْرَاتِ، وَهِيَ مِنَ الْخَيْرَاتِ الْمُؤَبَّدَةِ الدَّارَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، الْمُسْتَجْلِبَةِ بَرَكَةَ أَدْعِيَةِ الصَّالِحِينَ، وَنَاهِيكَ بِهَا خَيْرًا، فَهَذِهِ جُمْلَةُ فَوَائِدِ الْمَالِ فِي الدِّينِ.
وَأَمَّا الْآفَاتُ: فَدِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ، وَأَمَّا الدِّينِيَّةُ فَثَلَاثٌ:
الْأُولَى: أَنْ تَجُرَّ إِلَى الْمَعَاصِي، فَإِنَّ الْمَالَ يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ الْمَعَاصِي وَارْتِكَابِ الْفُجُورِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَجُرَّ إِلَى التَّنَعُّمِ فِي الْمُبَاحَاتِ، وَالتَّمَرُّنِ عَلَيْهِ، حَتَّى يَصِيرَ مَأْلُوفًا عِنْدَهُ وَمَحْبُوبًا لَا يَصْبِرُ عَنْهُ، وَإِذَا اشْتَدَّ أُنْسُهُ بِهِ رُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَيْهِ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ، فَيَقْتَحِمُ الشُّبَهَاتِ، وَيَخُوضُ فِي الْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ، وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ؛ لِيَنْتَظِمَ لَهُ أَمْرُ دُنْيَاهُ، وَيَتَيَسَّرَ لَهُ تَنَعُّمُهُ، وَذَلِكَ مِنْ شُؤْمِ الْمَالِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يُلْهِيهِ إِصْلَاحُ مَالِهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ مَا شَغَلَ الْعَبْدَ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ خُسْرَانٌ.
وَأَمَّا الْآفَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ؛ كَالْخَوْفِ، وَالْحُزْنِ، وَالْغَمِّ، وَالْهَمِّ، وَالتَّعَبِ فِي دَفْعِ الْحِسَابِ، وَتَجَشُّمِ الْمَصَاعِبِ فِي حِفْظِ الْمَالِ وَكَسْبِهِ، وَالْفِكْرِ فِي خُصُومَةِ الشُّرَكَاءِ وَمُنَازَعَتِهِمْ.
وَأَدْوِيَةُ أَفْكَارِ الدُّنْيَا لَا نِهَايَةَ لَهَا. فَإِنَّ تِرْيَاقَ الْمَالِ أَخْذُهُ مِنْ حِلِّهِ، وَصَرْفُهُ فِي الْخَيْرَاتِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ سُمُومٌ وَآفَاتٌ. نَسْأَلُهُ تَعَالَى السَّلَامَ وَالْعَوْنَ بِلُطْفِهِ وَكَرَمِهِ.
يَنْبَغِي لِلْفَقِيرِ أَنْ يَكُونَ قَانِعًا مُنْقَطِعَ الطَّمَعِ عَنِ الْخَلْقِ، غَيْرَ مُتَلَفِّتٍ إِلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَلَا حَرِيصًا عَلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ كَيْفَ كَانَ؛ لِئَلَّا يَتَدَنَّسَ بِذُلِّ الْحِرْصِ، فَيَجُرُّهُ إِلَى مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ وَارْتِكَابِ الْمُنْكَرَاتِ، وَقَدْ جُبِلَ الْآدَمِيُّ عَلَى الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ وَقِلَّةِ الْقَنَاعَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا» وَعِلَاجُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: الِاقْتِصَادُ فِي الْمَعِيشَةِ وَالرِّفْقُ فِي الْإِنْفَاقِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْقَنَاعَةِ، فَإِنَّ مَنْ كَثُرَ خَرْجُهُ وَاتَّسَعَ إِنْفَاقُهُ لَمْ تُمْكِنْهُ الْقَنَاعَةُ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا عَالَ مَنِ اقْتَصَدَ»، وَعَنْهُ ﷺ: «ثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ: خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ» . وَعَنْهُ ﷺ: «الِاقْتِصَادُ وَحُسْنُ السَّمْتِ وَالْهَدْيُ الصَّالِحُ جُزْءٌ مِنْ بِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» .
الثَّانِي: أَنْ يَتَحَقَّقَ بِأَنَّ الرِّزْقَ الَّذِي قُدِّرَ لَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَأْتِيَهُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَدَّ حِرْصُهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَعْرِفَ مَا فِي الْقَنَاعَةِ مِنْ عِزِّ الِاسْتِغْنَاءِ، وَمَا فِي الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ مِنَ الذُّلِّ وَالْمُدَاهَنَةِ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكْثُرَ تَأَمُّلُهُ فِي تَنَعُّمِ الْكَفَرَةِ وَالْحَمْقَى، ثُمَّ يَنْظُرَ إِلَى أَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَيَسْتَمِعَ أَحَادِيثَهُمْ، وَيُطَالِعَ أَحْوَالَهُمْ، وَيُخَيِّرَ عَقْلَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُشَابَهَةِ الْفُجَّارِ أَوِ الْأَبْرَارِ، فَيَهُونُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَالْقَنَاعَةُ بِالْيَسِيرِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَفْهَمَ مَا فِي جَمْعِ الْمَالِ مِنَ الْخَطَرِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي آفَاتِ الْمَالِ، وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِأَنْ يَنْظُرَ أَبَدًا إِلَى مَنْ دُونَهُ فِي الدُّنْيَا، لَا إِلَى مَنْ فَوْقَهُ. فَبِهَذِهِ الْأُمُورِ يَقْدِرُ عَلَى اكْتِسَابِ خُلُقِ الْقَنَاعَةِ، وَعِمَادُ الْأَمْرِ الصَّبْرُ.
اعْلَمْ أَنَّ الْمَالَ إِنْ كَانَ مَفْقُودًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُ الْعَبْدِ الْقَنَاعَةَ وَقِلَّةَ الْحِرْصِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُهُ الْإِيثَارَ، وَالسَّخَاءَ، وَاصْطِنَاعَ الْمَعْرُوفِ، وَالتَّبَاعُدَ عَنِ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ، فَإِنَّ السَّخَاءَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ ﵈ وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ النَّجَاةِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: «خُلُقَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: حُسْنُ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءُ، وَخُلُقَانِ يَبْغَضُهُمَا: سُوءُ الْخُلُقِ وَالْبُخْلُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ» .
وَعَنْهُ ﷺ: «إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ: بَذْلُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ، وَحُسْنُ الْكَلَامِ» .
وَقَالَ «أنس»: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يُسْأَلْ شَيْئًا عَلَى الْإِسْلَامِ إِلَّا أَعْطَاهُ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِشَاءٍ كَثِيرٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنْ شَاءِ الصَّدَقَةِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخَافُ الْفَاقَةَ» .
وَقَالَ ﷺ: «إِنَّ السَّخِيَّ قَرِيبٌ مِنَ اللَّهِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ الْجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَإِنَّ الْبَخِيلَ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ الْجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، وَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَالِمٍ بَخِيلٍ، وَأَدْوَأُ الدَّاءِ الْبُخْلُ» .
وَقَالَ ﷺ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ مَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا وَقَى بِهِ الرَّجُلُ عِرْضَهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ مِنْ نَفَقَةٍ فَعَلَى اللَّهِ خَلْفُهَا» .
وَقَالَ ﷺ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَالدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ إِغَاثَةَ اللَّهْفَانِ» .
وَعَنْ «الحسن بن علي»: «الْكَرَمُ هُوَ التَّبَرُّعُ بِالْمَعْرُوفِ قَبْلَ السُّؤَالِ، وَالْإِطْعَامُ فِي الْمَحَلِّ، وَالرَّأْفَةُ بِالسَّائِلِ، مَعَ بَذْلِ النَّائِلِ» .
وَعَنْ «عبد الله بن جعفر»: «أَمْطِرِ الْمَعْرُوفَ مَطَرًا، فَإِنْ أَصَابَ الْكِرَامَ كَانُوا لَهُ أَهْلًا، وَإِنْ أَصَابَ اللِّئَامَ كُنْتَ لَهُ أَهْلًا» .
وَمِنْ سَخَاءِ السَّلَفِ مَا حُكِيَ أَنَّ «ابن عامر» اشْتَرَى دَارًا بِتِسْعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ سَمِعَ بُكَاءَ أَهْلِهَا، فَسَأَلَ، فَقِيلَ: «يَبْكُونَ لِدَارِهِمْ» . فَقَالَ: «يَا غُلَامُ، إِيتِهِمْ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ الْمَالَ وَالدَّارَ لَهُمْ جَمِيعًا» .
وَكَانَ «اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ» لَا يَتَكَلَّمُ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى يَتَصَدَّقَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتِّينَ مِسْكِينًا.
وَعَنْ «أَسْمَاءَ بْنِ خَارِجَةَ» أَنَّ «عبد الملك» سَأَلَهُ عَنْ خِصَالٍ حَدَّثَ بِهَا عَنْهُ، فَأَجَابَهُ أسماء: «مَا مَدَدْتُ رِجْلِي بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لِي قَطُّ، وَلَا صَنَعْتُ طَعَامًا قَطُّ فَدَعَوْتُ عَلَيْهِ قَوْمًا إِلَّا وَكَانُوا أَمَنَّ عَلَيَّ مِنِّي عَلَيْهِمْ، وَلَا نَصَبَ لِي رَجُلٌ وَجْهَهُ قَطُّ يَسْأَلُنِي شَيْئًا فَاسْتَكْثَرْتُ شَيْئًا أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ» .
وَعَنْ «الشَّافِعِيِّ» أَنَّ «حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ» انْقَطَعَ زِرُّهُ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَمَرَّ عَلَى خَيَّاطٍ وَأَرَادَ النُّزُولَ، فَبَادَرَهُ الْخَيَّاطُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْزِلَ، وَأَصْلَحَ لَهُ زِرَّهُ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَأَخْرَجَ لَهُ صُرَّةً فِيهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ وَسَلَّمَهَا لَهُ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ مِنْ قِلَّتِهَا.
قَالَ «الشَّافِعِيُّ»: «لَا أَزَالُ أُحِبُّ حمادا لِمَا بَلَغَنِي عَنْهُ»، وَأَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ لِنَفْسِهِ:
يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى مَالٍ أَجُودُ بِهِ ... عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ
إِنَّ اعْتِذَارِي إِلَى مَنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي ... مَا لَيْسَ عِنْدِي مِنْ إِحْدَى الْمُصِيبَاتِ
وَعَنْ «الربيع بن سليمان» قَالَ: «أَخَذَ رَجُلٌ بِرِكَابِ الشَّافِعِيِّ ﵀، فَقَالَ: يَا ربيع، أَعْطِهِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَاعْتَذِرْ إِلَيْهِ عَنِّي» .
وَقَامَ رَجُلٌ إِلَى «سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ» فَسَأَلَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ «سعيد»: «مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ مِثْلَكَ، فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفٍ أُخْرَى» .
وَرُوِيَ أَنَّ عليا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَكَى، فَقِيلَ: «مَا يُبْكِيكَ»؟ فَقَالَ: «لَمْ يَأْتِنِي ضَيْفٌ مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَهَانَنِي» .
وَرُوِيَ أَنْ رَجُلًا أَتَى صَدِيقًا لَهُ، فَدَقَّ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَقَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ»؟ قَالَ: «عَلَيَّ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ دَيْنٌ»، فَوَزَنَ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْرَجَهَا إِلَيْهِ وَعَادَ يَبْكِي، فَسَأَلَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَقَالَ: «أَبْكِي لِأَنِّي لَمْ أَتَفَقَّدْ حَالَهُ حَتَّى احْتَاجَ إِلَى مُفَاتَحَتِي» .
فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ هَذِهِ أَخْلَاقُهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الْحَشْرِ: ٩، وَالتَّغَابُنِ: ١٦] وَقَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آلِ عِمْرَانَ: ١٨٠] وَقَالَ ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ وَيَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَهُمْ» .
وَقَالَ ﷺ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيلٌ» .
وَعَنْهُ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْبَخِيلَ فِي حَيَاتِهِ، السَّخِيَّ عِنْدَ مَوْتِهِ» .
وَقَالَ ﷺ: «خَصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ» .
وَعَنْ «علي» كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ، يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [الْبَقَرَةِ: ٢٣٧] .
وَقَالَ «الشَّعْبِيُّ»: «لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أَبْعَدُ غَوْرًا فِي نَارِ جَهَنَّمَ: الْبُخْلُ أَوِ الْكَذِبُ» .
وَقَالَ «بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ»: «الْبَخِيلُ لَا غِيبَةَ لَهُ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ إِنَّكَ إِذًا لَبَخِيلٌ» .
وَقَالَ ﷺ لِوَفْدِ بَنِي لَحْيَانَ: «مَنْ سَيِّدُكُمْ»؟ قَالُوا: «جد بن قيس٢٢٤
إِلَّا أَنَّهُ رَجُلٌ فِيهِ بُخْلٌ»، فَقَالَ ﷺ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَأُ مِنَ الْبُخْلِ، وَلَكِنَّ سَيِّدَكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ» وَكَانَ «عمرو» يُولِمُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذَا تَزَوَّجَ.
وَعَنْ علي ﵁ قَالَ: وَاللَّهِ مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ حَقَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) [التَّحْرِيمِ: ٣] .
وَقَالَ «بشر»: «النَّظَرُ إِلَى الْبَخِيلِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَلِقَاءُ الْبُخَلَاءِ كَرْبٌ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» .
وَقَالَ «ابن المعتز»: «أَبْخَلُ النَّاسِ بِمَالِهِ أَجْوَدُهُمْ بِعِرْضِهِ».
اعْلَمْ أَنَّ الْمَالَ خُلِقَ لِحِكْمَةٍ، وَهُوَ صَلَاحُهُ لِحَاجَاتِ الْخَلْقِ، فَيُمْكِنُ إِمْسَاكُهُ عَنْ صَرْفِهِ إِلَى مَا خُلِقَ الصَّرْفُ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ بَذْلُهُ بِالصَّرْفِ إِلَى مَا لَا يَحْسُنُ الصَّرْفُ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْعَدْلِ، وَهُوَ أَنْ يُحْفَظَ حَيْثُ يَجِبُ الْحِفْظُ، وَيُبْذَلَ حَيْثُ يَجِبُ الْبَذْلُ، فَالْإِمْسَاكُ حَيْثُ يَجِبُ الْبَذْلُ بُخْلٌ، وَالْبَذْلُ حَيْثُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ تَبْذِيرٌ، وَبَيْنَهَا وَسَطٌ هُوَ الْمَحْمُودُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ السَّخَاءُ وَالْجُودُ عِبَارَةً عَنْهُ، إِذْ لَمْ يُؤْمَرُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَّا بِالسَّخَاءِ، وَقَدْ قِيلَ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) [الْإِسْرَاءِ: ٢٩] وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الْفُرْقَانِ: ٦٧] .
فَالْجُودُ وَسَطٌ بَيْنَ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ، وَبَيْنَ الْبَسْطِ وَالْقَبْضِ، وَهُوَ أَنْ يُقَدَّرَ بَذْلُهُ وَإِمْسَاكُهُ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ طَيِّبًا بِهِ غَيْرَ مُنَازِعٍ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّ الْوَاجِبَ بَذْلُهُ قِسْمَانِ: وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ، وَوَاجِبٌ بِالْمُرُوءَةِ وَالْعَادَةِ.
وَالسَّخِيُّ هُوَ الَّذِي لَا يَمْنَعُ وَاجِبَ الشَّرْعِ، وَلَا وَاجِبَ الْمُرُوءَةِ، فَإِنْ مَنَعَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَهُوَ بَخِيلٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَمْنَعُ وَاجِبَ الشَّرْعِ أَبْخَلُ، كَالَّذِي يَمْنَعُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ، وَيَمْنَعُ عِيَالَهُ وَأَهْلَهُ النَّفَقَةَ أَوْ يُؤَدِّيهَا وَلَكِنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ بَخِيلٌ بِالطَّبْعِ، أَوِ الَّذِي يَتَيَمَّمُ الْخَبِيثَ مِنْ مَالِهِ، وَلَا يَطِيبُ قَلْبُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ أَطْيَبِ مَالِهِ أَوْ مِنْ وَسَطِهِ فَهَذَا كُلُّهُ بُخْلٌ.
وَمِنْ وَاجِبِ الْمُرُوءَةِ تَرْكُ الْمُضَايَقَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي الْمُحَقَّرَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَقْبَحٌ، وَاسْتِقْبَاحُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالْأَحْوَالِ وَالْأَشْخَاصِ، فَمَنْ كَثُرَ مَالُهُ اسْتُقْبِحَ مِنْهُ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْفَقِيرِ مِنَ الْمُضَايَقَةِ، وَيُسْتَقْبَحُ مِنَ الرَّجُلِ الْمُضَايَقَةُ مَعَ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ، مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْأَجَانِبِ، وَيُسْتَقْبَحُ مِنَ الْجَارِ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ مِنَ الْبَعِيدِ، وَيُسْتَقْبَحُ فِي الضِّيَافَةِ مِنَ الْمُضَايَقَةِ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ فِي الْمُعَامَلَةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْبَخِيلُ هُوَ الَّذِي يَمْنَعُ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ إِمَّا بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَإِمَّا بِحُكْمِ الْمُرُوءَةِ، وَمَنْ أَدَّى وَاجِبَ الشَّرْعِ وَوَاجِبَ الْمُرُوءَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ فَقَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْبُخْلِ، نَعَمْ لَا يَتَّصِفُ بِصِفَةِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ مَا لَمْ يَبْذُلْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ لِطَلَبِ الْفَضِيلَةِ وَنَيْلِ الدَّرَجَاتِ، فَاصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ وَرَاءَ مَا تُوجِبُهُ الْعَادَةُ وَالْمُرُوءَةُ هُوَ الْجُودُ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَلَا يَكُونَ عَنْ طَمَعٍ وَرَجَاءِ خِدْمَةٍ أَوْ مُكَافَأَةٍ أَوْ شُكْرٍ أَوْ ثَنَاءٍ، فَإِنَّ مَنْ طَمِعَ فِي الشُّكْرِ وَالثَّنَاءِ فَهُوَ بَيَّاعٌ وَلَيْسَ بِجَوَّادٍ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي الْمَدْحَ بِمَالِهِ، وَمِثْلُهُ مَنْ يَبْعَثُهُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنَ الْهِجَاءِ أَوْ مَلَامَةِ الْخَلْقِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْجُودِ ; لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ بِهَذِهِ الْبَوَاعِثِ وَهِيَ أَعْوَاضٌ مُعَجَّلَةٌ لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُعْتَاضٌ لَا جَوَّادٌ.
اعْلَمْ أَصْلَحَكَ اللَّهُ أَنَّ أَصْلَ الْجَاهِ هُوَ انْتِشَارُ الصِّيتِ وَالِاشْتِهَارِ، وَهُوَ مَذْمُومٌ، بَلِ الْمَحْمُودُ الْخُمُولُ إِلَّا مَنْ شَهَرَهُ اللَّهُ لِنَشْرِ دِينِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ طَلَبِ الشُّهْرَةِ مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا) [الْقَصَصِ: ٨٣] جَمَعَ بَيْنَ إِرَادَةِ الْفَسَادِ وَالْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَبَيْنَ أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لِلْخَالِي عَنِ الْإِرَادَتَيْنِ جَمِيعًا، وَقَالَ ﷿: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هُودٍ: ١٥، ١٦] .
وَهَذَا أَيْضًا مُتَنَاوِلٌ بِعُمُومِهِ لِحُبِّ الْجَاهِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لَذَّةً مِنْ لَذَّاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأَكْثَرُ زِينَةً مِنْ زِينَتِهَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يُشِيرَ النَّاسُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ» «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» .
وَرُوِيَ فِي فَضِيلَةِ الْخُمُولِ عَنْهُ ﷺ: «رُبَّ أَشَعْثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» وَعَنْهُ ﷺ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ: كُلُّ ضَعِيفٍ مُسْتَضْعَفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، وَأَهْلُ النَّارِ: كُلُّ مُتَكَبِّرٍ مُسْتَكْبِرٍ جَوَّاظٍ» .
وَالْأَخْبَارُ فِي مَذَمَّةِ الشُّهْرَةِ وَفَضِيلَةِ الْخُمُولِ كَثِيرَةٌ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالشُّهْرَةِ وَانْتِشَارِ الصِّيتِ هُوَ الْجَاهُ وَالْمَنْزِلَةُ فِي الْقُلُوبِ. وَحُبُّ الْجَاهِ مَنْشَأُ كُلِّ فَسَادٍ. ثُمَّ إِنَّ الْمَذْمُومَ هُوَ طَلَبُ الشُّهْرَةِ وَالْحِرْصُ عَلَيْهَا، فَأَمَّا وُجُودُهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ مِنَ الْعَبْدِ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ.
اعْلَمْ أَنَّ الْبُخْلَ سَبَبُهُ حُبُّ الْمَالِ، وَلِحُبِّ الْمَالِ سَبَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: حُبُّ الشَّهَوَاتِ الَّتِي لَا وُصُولَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْمَالِ مَعَ طُولِ الْأَمَلِ.
الثَّانِي: أَنْ يُحِبَّ عَيْنَ الْمَالِ وَيَلْتَذَّ بِوُجُودِهِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ زَائِدٌ عَنْ حَاجَاتِهِ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ. وَقَدَّمْنَا أَنَّ عِلَاجَ كُلِّ عِلَّةٍ بِمُضَادَّةِ سَبَبِهَا، فَيُعَالَجُ حُبُّ الشَّهَوَاتِ بِالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ وَبِالصَّبْرِ، وَيُعَالَجُ طُولُ الْأَمَلِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَالنَّظَرِ فِي مَوْتِ الْأَقْرَانِ وَطُولِ تَعَبِهِمْ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَضَيَاعِهِ بَعْدَهُمْ، وَيُعَالَجُ الْتِفَاتُ الْقَلْبِ إِلَى الْوَلَدِ بِأَنَّ خَالِقَهُ خَلَقَ مَعَهُ رِزْقَهُ، وَكَمْ مِنْ وَلَدٍ لَمْ يَرِثْ مِنْ أَبِيهِ مَالًا، وَحَالُهُ أَحْسَنُ مِمَّنْ وَرِثَ، وَبِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَالَ لِوَلَدِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتْرُكَ وَلَدَهُ بِخَيْرٍ وَيَنْقَلِبُ إِلَى شَرٍّ، وَيُعَالَجُ قَلْبُهُ أَيْضًا بِكَثْرَةِ التَّأَمُّلِ فِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ الْبُخْلِ وَمَدْحِ السَّخَاءِ وَمَا تَوَعَّدَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْبُخْلِ مِنَ الْعِقَابِ الْعَظِيمِ.
وَمِنَ الْأَدْوِيَةِ النَّافِعَةِ: كَثْرَةُ التَّأَمُّلِ فِي أَحْوَالِ الْبُخَلَاءِ وَنَفْرَةُ الطَّبْعِ عَنْهُمْ وَاسْتِقْبَاحُهُمْ لَهُ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ بَخِيلٍ إِلَّا وَيَسْتَقْبِحُ الْبُخْلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَسْتَثْقِلُ الْبَخِيلُ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَثْقَلٌ وَمُسْتَقْذَرٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ مِثْلُ سَائِرِ الْبُخَلَاءِ فِي قَلْبِهِ، وَيُعَالَجُ قَلْبُهُ أَيْضًا بِأَنْ يَتَفَكَّرَ فِي مَقَاصِدِ الْمَالِ وَأَنَّهُ لِمَاذَا خُلِقَ فَلَا يَحْفَظُ مِنْهُ إِلَّا قَدْرَ حَاجَتِهِ وَالْبَاقِي يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ بَذْلِهِ.
فَهَذِهِ الْأَدْوِيَةُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ، فَإِذَا عَرَفَ بِنُورِ الْبَصِيرَةِ أَنَّ الْبَذْلَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْإِمْسَاكِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هَاجَتْ رَغْبَتُهُ فِي الْبَذْلِ إِنْ كَانَ عَاقِلًا، فَإِذَا تَحَرَّكَتِ الشَّهْوَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَ الْخَاطِرَ الْأَوَّلَ، وَلَا يَتَوَقَّفَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُهُ الْفَقْرَ وَيُخَوِّفُهُ وَيَصُدُّهُ عَنْهُ.