logoنسخة تجرييبة
عن المشروع

ذم الدنيا

كِتَابُ ذَمِّ الدُّنْيَا

الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا وَأَمْثِلَتِهَا كَثِيرَةٌ، وَأَكْثَرُ الْقُرْآنِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ذَمِّ الدُّنْيَا، وَصَرْفِ الْخَلْقِ عَنْهَا، وَعَوْدَتِهِمْ إِلَى الْآخِرَةِ، بَلْ هُوَ مَقْصُودُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَمْ يُبْعَثُوا إِلَّا لِذَلِكَ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الِاسْتِشْهَادِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ؛ لِظُهُورِهَا، وَإِنَّمَا نُورِدُ بَعْضَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِيهَا:
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى شَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ: «أَتَرَوْنَ هَذِهِ الشَّاةَ هَيِّنَةً عَلَى أَهْلِهَا؟» قَالُوا: «مِنْ هَوَانِهَا أَلْقَوْهَا»، قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ عَلَى أَهْلِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ»، وَقَالَ ﷺ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ»، وَقَالَ ﷺ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .

بَيَانُ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةِ

اعْلَمْ أَنَّ مَعْرِفَةَ ذَمِّ الدُّنْيَا لَا تَكْفِيكَ مَا لَمْ تَعْرِفِ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةَ مَا هِيَ، وَمَا الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ مِنْهَا وَمَا الَّذِي لَا يُجْتَنَبُ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ نُبَيِّنَ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةَ الْمَأْمُورَ بِاجْتِنَابِهَا - لِكَوْنِهَا عَدُوَّةً قَاطِعَةً لِطَرِيقِ اللَّهِ - مَا هِيَ، فَنَقُولُ:
دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَتَيْنِ مِنْ أَحْوَالِ قَلْبِكَ، فَالْقَرِيبُ الدَّانِي يُسَمَّى دُنْيَا، وَهُوَ كُلُّ مَا قَبْلَ الْمَوْتِ، وَالْمُتَرَاخِي الْمُتَأَخِّرُ يُسَمَّى آخِرَةً، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكُلُّ مَا لَكَ فِيهِ حَظٌّ وَنَصِيبٌ، وَغَرَضٌ، وَشَهْوَةٌ، وَلَذَّةٌ - عَاجِلُ الْحَالِ قَبْلَ الْوَفَاةِ، فَهِيَ الدُّنْيَا فِي حَقِّكَ، إِلَّا أَنَّ جَمِيعَ مَا لَكَ إِلَيْهِ مَيْلٌ وَفِيهِ نَصِيبٌ وَحَظٌّ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، بَلْ هُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يَصْحَبُكَ فِي الْآخِرَةِ وَيَبْقَى مَعَكَ ثَمَرَتُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَهُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمُقَابِلُ لَهُ عَلَى الطَّرَفِ الْأَقْصَى: كُلُّ مَا فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ وَلَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ أَصْلًا، كَالتَّلَذُّذِ بِالْمَعَاصِي كُلِّهَا، وَالتَّنَعُّمِ بِالْمُبَاحَاتِ الزَّائِدَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَاتِ، وَالضَّرُورَاتِ الدَّاخِلَةِ فِي جُمْلَةِ الرَّفَاهِيَةِ وَالرُّعُونَاتِ - أَيْ فِي السَّرَفِ - فَحَظُّ الْعَبْدِ مِنْ هَذَا كُلِّهِ هِيَ الدُّنْيَا الْمَذْمُومَةُ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ: كُلُّ حَظٍّ عَاجِلٍ مُعِينٍ عَلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ لِيَتَأَتَّى لِلْإِنْسَانِ الْبَقَاءُ وَالصِّحَّةُ الَّتِي بِهَا يَصِلُ إِلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا كَالْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُعِينٌ عَلَى الْأَوَّلِ وَوَسِيلَةٌ إِلَيْهِ، فَمَهْمَا تَنَاوَلَهُ الْعَبْدُ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ بِهِ مُتَنَاوِلًا لِلدُّنْيَا، وَلَمْ يَصِرْ بِهِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَكَانَتِ الدُّنْيَا فِي حَقِّهِ مَزْرَعَةً لِلْآخِرَةِ، وَإِنْ أَخَذَ ذَلِكَ بِقَصْدِ حَظِّ النَّفْسِ فَهُوَ مِنَ الدُّنْيَا. فَإِذَنِ الدُّنْيَا: حَظُّ نَفْسِكَ الْعَاجِلُ الَّذِي لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ لِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْهَوَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النَّازِعَاتِ: ٤٠، ٤١] وَمَجَامِعُ الْهَوَى خَمْسَةُ أُمُورٍ، وَهِيَ مَا جَمَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) [الْحَدِيدِ: ٢٠] .
وَالْأَعْيَانُ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهَا هَذِهِ الْخَمْسَةُ سَبْعَةٌ، يَجْمَعُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [آلِ عِمْرَانَ: ١٤] وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا لَيْسَ لِلَّهِ فَهُوَ مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا هُوَ لِلَّهِ فَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا.

بَيَانُ حَقِيقَةِ الدُّنْيَا فِي نَفْسِهَا

اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنْ أَعْيَانٍ مَوْجُودَةٍ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا حَظٌّ وَلَهُ فِي إِصْلَاحِهَا شُغْلٌ، وَإِنَّمَا الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ الَّتِي لَدَيْنَا عِبَارَةٌ عَنْهَا، فَهِيَ الْأَرْضُ وَمَا عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الْكَهْفِ: ٧] فَالْأَرْضُ فِرَاشٌ لِلْآدَمِيِّينَ وَمِهَادٌ وَمَسْكَنٌ وَمُسْتَقَرٌّ، وَمَا عَلَيْهَا لَهُمْ مَلْبَسٌ وَمَطْعَمٌ وَمَشْرَبٌ وَمَنْكَحٌ، وَيَجْمَعُ مَا عَلَى الْأَرْضِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ.

أَمَّا النَّبَاتُ: فَيَطْلُبُهُ الْآدَمِيُّ لِلِاقْتِيَاتِ وَالتَّدَاوِي.
وَأَمَّا الْمَعَادِنُ: فَيَطْلُبُهَا لِلْآلَاتِ وَالْأَوَانِي، كَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ، وَلِلنَّقْدِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ.

وَأَمَّا الْحَيَوَانُ: فَيَنْقَسِمُ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ، أَمَّا الْبَهَائِمُ فَيَطْلُبُ مِنْهَا لُحُومَهَا لِلْمَآكِلِ، وَظُهُورَهَا لِلْمَرْكَبِ وَالزِّينَةِ، وَأَمَّا الْإِنْسَانُ فَقَدْ يَطْلُبُ الْآدَمِيَّ لِيُسْتَخْدَمَ كَالْغِلْمَانِ، أَوْ لِيَتَمَتَّعَ بِهِ كَالْجَوَارِي وَالنِّسْوَانِ، وَيَطْلُبُ قُلُوبَ النَّاسِ لِيَمْلِكَهَا بِأَنْ يَغْرِسَ فِيهَا التَّعْظِيمَ وَالْإِكْرَامَ، وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجَاهِ، إِذْ مَعْنَى الْجَاهِ مِلْكُ قُلُوبِ الْآدَمِيِّينَ، فَهَذِهِ هِيَ الْأَعْيَانُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالدُّنْيَا، وَقَدْ جَمَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ) وَهَذَا مِنَ الْإِنْسِ، (وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَهَذَا مِنَ الْجَوَاهِرِ وَالْمَعَادِنِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ اللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ وَغَيْرِهَا، (وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ) وَهِيَ الْبَهَائِمُ وَالْحَيَوَانُ، (وَالْحَرْثِ) وَهُوَ النَّبَاتُ وَالزَّرْعُ، فَهَذِهِ هِيَ أَعْيَانُ الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ لَهَا مَعَ الْعَبْدِ٢١٧

عَلَاقَتَيْنِ: عَلَاقَةٌ مَعَ الْقَلْبِ، وَهُوَ حُبُّهُ لَهَا، وَحَظُّهُ مِنْهَا، وَانْصِرَافُ هَمِّهِ إِلَيْهَا، حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كَالْعَبْدِ أَوِ الْمُحِبِّ الْمُسْتَهْتِرِ بِالدُّنْيَا، وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْعَلَاقَةِ جَمِيعُ صِفَاتِ الْقَلْبِ الْمُعَلَّقِ بِالدُّنْيَا، كَالْكِبْرِ، وَالْغِلِّ، وَالْحَسَدِ، وَالرِّيَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، وَسُوءِ الظَّنِّ، وَالْمُدَاهَنَةِ، وَحُبِّ الثَّنَاءِ، وَحُبِّ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ، وَهَذِهِ هِيَ الدُّنْيَا الْبَاطِنَةُ، وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَهِيَ كَالْأَعْيَانِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

الْعَلَاقَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ الْبَدَنِ، وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِإِصْلَاحِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ؛ لِتَصْلُحَ لِحُظُوظِهِ وَحُظُوظِ غَيْرِهِ، وَهِيَ جُمْلَةُ الصِّنَاعَاتِ وَالْحِرَفِ الَّتِي الْخَلْقُ مَشْغُولُونَ بِهَا. وَالْخَلْقُ إِنَّمَا نَسُوا أَنْفُسَهُمْ وَمَآبَهُمْ وَمُنْقَلَبَهُمْ بِالدُّنْيَا لِهَاتَيْنِ الْعَلَاقَتَيْنِ: عَلَاقَةِ الْقَلْبِ بِالْحُبِّ، وَعَلَاقَةِ الْبَدَنِ بِالشُّغْلِ، وَلَوْ عَرَفَ نَفْسَهُ، وَعَرَفَ رَبَّهُ، وَعَرَفَ حِكْمَةَ الدُّنْيَا وَسِرَّهَا - عَلِمَ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا دُنْيَا لَمْ تُخْلَقْ إِلَّا لِقَوَامِهِ؛ لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى إِصْلَاحِ دِينِهِ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْقَلْبُ مِنْ شُغْلِ الْبَدَنِ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكُنْهِ هِمَّتِهِ، وَبَقِيَ مُلَازِمًا لِسِيَاسَةِ الشَّهَوَاتِ وَمُرَاقِبًا لَهَا، حَتَّى لَا يُجَاوِزَ حُدُودَ الْوَرَعِ وَالتَّقْوَى، وَلَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ إِلَّا بِالِاقْتِدَاءِ بِالْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ، فَقَدْ كَانُوا عَلَى الْمَنْهَجِ الْقَصْدِ، وَعَلَى السَّبِيلِ الْوَاضِحِ، فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، بَلْ لِلدِّينِ، وَمَا كَانُوا يَتَرَهَّبُونَ وَيَهْجُرُونَ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَا كَانَ لَهُمْ فِي الْأُمُورِ تَفْرِيطٌ وَلَا إِفْرَاطٌ، بَلْ كَانَ أَمْرُهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَذَلِكَ هُوَ الْعَدْلُ وَالْوَسَطُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَهُوَ أَحَبُّ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.

    المصادر
  • كتاب إحياء علوم الدين
  • كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
آخر تعديل: 14.12.2023 / 10:24